فصل: تفسير الآية رقم (89)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 82‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ الواو لعطف الجملة على جملة‏:‏ ‏{‏وقد كان فريق منهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏ فتكون حالاً مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار‏}‏‏.‏ والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله ‏{‏يكتبون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار‏.‏ ووجه المناسبة أن قولهم ‏{‏لن تمسنا النار‏}‏ دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياماً معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياماً عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم‏.‏ ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله ‏{‏قالوا آمنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم‏:‏ قال مالك، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب‏:‏

علام تقول الرمح يثقل عاتقي *** والمس حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وعبر عن نفيهم بحرف ‏(‏لن‏)‏ الدال على تأييد النفي تأكيداً لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد، ولدلالة ‏(‏لن‏)‏ على استغراق الأزمان تأتّى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله‏:‏ ‏{‏إلا أياماً معدودة‏}‏ على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية‏.‏

والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعاً للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصوداً هنا‏.‏

وتأنيث ‏(‏معدودة‏)‏ وهو صفة ‏(‏أياماً‏)‏ مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات، وسيأتي ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أياماً معدودات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل أتخذتم عند الله عهداً‏}‏ جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده ‏{‏بلى‏}‏ فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو ‏{‏أم تقولون‏}‏ لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له‏.‏

والمراد بالعهد الوعد المؤكد فهو استعارة، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد، ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك‏.‏

وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و«عند» لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يداً عند فلان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلن يخلف الله عهده‏}‏ الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه وما بعد الفاء هو علة الجزاء والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60‏]‏‏.‏ ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسبباً عما قبلها ولا مترتباً عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط المقدر لأن ‏(‏لن‏)‏ للاستقبال‏.‏

و ‏(‏أم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أم تقولون على الله ما لا تعلمون‏}‏ معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما صرح به ابن الحاجب في «الإيضاح» وهو التحقيق كما قال عبد الحكيم، فما قاله صاحب «المفتاح» من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ إبطال لقولهم‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة‏}‏، وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها فمعنى بلى بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من كسب سيئة‏}‏ سند لما تضمنته ‏(‏بلى‏)‏ من إبطال قولهم، أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة إلخ ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار فأنتم منهم لا محالة على حد قول لبيد‏:‏

تمنَّى ابنتاي أن يعيش أبوهما *** وهل أَنا إلا من ربيعةَ أو مُضَرْ

أي فلا أخلد كما لم يخلد بنو ربيعة ومضر، فمَنْ في قوله‏:‏ ‏{‏من كسب سيئة‏}‏ شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها وهي في الشرط من صيغ العموم فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب ‏(‏بلى‏)‏ بهذا العموم لأنه لو لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذِكر العموم بعدها كلاماً متناثراً ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏‏.‏

والمراد بالسيئة هنا السيئة العظيمة وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله‏:‏ ‏{‏وأحاطبت به خطيئاته‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأحاطت به خطيئاته‏}‏ الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذاً للإقبال على غير ذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وظنوا أنهم أحيط بهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجريء على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة‏.‏

والقصر المستفاد من التعريف في قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ قصر إضافي لقلب اعتقادهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏}‏ تذييل لتعقيب النذارة بالبشارة على عادة القرآن‏.‏

والمراد بالخلود هنا حقيقته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

أعيد ذكر أحوال بني إسرائيل بعد ذلك الاستطراد المتفنن فيه، فأعيد الأسلوب القديم وهو العطف بإعادة لفظ ‏(‏إذ‏)‏ في أول القصص‏.‏ وأظهر هنا لفظ ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ وعدل عن الأسلوب السابق الواقع فيه التعبير بضمير الخطاب المراد به سلف المخاطبين وخلفهم لوجهين‏:‏ أحدهما أن هذا رجوع إلى مجادلة بني إسرائيل وتوقيفهم على مساويهم فهو افتتاح ثان جرى على أسلوب الافتتاح الواقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعدكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏ الآية‏.‏ ثانيهما‏:‏ أن ما سيذكر هنا لما كان من الأحوال التي اتصف بها السلف والخلف وكان المقصود الأول منه إثبات سوء صنيع الموجودين في زمن القرآن تعين أن يعبر عن سلفهم باللفظ الصريح ليتأتى توجيه الخطاب من بعد ذلك إلى المخاطبين حتى لا يظن أنه من الخطاب الذي أريد به أسلافهم على وزان ‏{‏وإذ نجيناكم من آل فرعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 49‏]‏ أو على وزان ‏{‏ثم اتخذتم العجل من بعده‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ميثاق بني إسرائيل‏}‏ أريد به أسلافهم لأنهم الذين أعطوا الميثاق لموسى على امتثال ما أنزل الله من التوراة كما قدمناه، أو المراد بلفظ ‏(‏بني إسرائيل‏)‏ المتقدمون والمتأخرون، والمراد بالخطاب في ‏{‏توليتم‏}‏ خصوص من بعدهم لأنهم الذين تولوا فليس في الكلام التفات ما، وهو أولى من جعل ما صدق ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ هو ما صدق ضمير ‏{‏توليتم‏}‏ وأن الكلام التفات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا تعبدون إلا الله‏}‏ خبر في معنى الأمر ومجيء الخبر للأمر أبلغ من صيغة الأمر لأن الخبر مستعمل في غير معناه لعلاقة مشابهة الأمر الموثوق بامتثاله بالشيء الحاصل حتى إنه يخبر عنه‏.‏ وجملة ‏{‏لا تعبدون‏}‏ مبدأ بيان للميثاق فلذلك فصلت وعطف ما بعدها عليها ليكون مشاركاً لها في معنى البيانية سواء قَدَّرْت أنْ أو لم تقدِّرْها أو قدَّرت قولاً محذوفاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحساناً‏}‏ هو مما أخذ عليهم الميثاق به وهو أمر مؤكد لما دل عليه تقديم المتعلق على متعلقه وهما ‏{‏بالوالدين إحساناً‏}‏ وأصله وإحساناً بالوالدين، والمصدر بدل من فعله والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحساناً‏.‏ ولا يريبكم أنه معمول مصدر وهو لا يتقدم على عامله على مذهب البصريين لأن تلك دعوى واهية دعاهم إليها أن المصدر في معنى أنْ والفعل فهو في قوة الصلة ومعمول الصلة لا يتقدم عليها مع أن أن والفعل هي التي تكون في معنى المصدر لا العكس، والعجب من ابن جني كيف تابعهم في «شرحه للحماسة» على هذا عند قول الحماسي‏:‏

وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان *** وعلى طريقتهم تعلق قوله‏:‏ ‏{‏بالوالدين‏}‏ بفعل محذوف تقديره وأحسنوا، وقوله‏:‏ ‏{‏إحساناً‏}‏ مصدر ويرد عليهم أن حذف عامل المصدر المؤكد ممتنع لأنه تبطل به فائدة التأكيد الحاصلة من التكرير فلا حاجة إلى جميع ذلك‏.‏

ونجزم بأن المجرور مقدم على المصدر، على أن التوسع في المجرورات أمر شائع وأصل مفروغ منه‏.‏ 5

واليتامى جمع يتيم كالندامى للنديم وهو قليل في جمع فعيل‏.‏

وجعل الإحسان لسائر الناس بالقول لأنه القدر الذي يمكن معاملة جميع الناس به وذلك أن أصل القول أن يكون عن اعتقاد، فهم إذا قالوا للناس حسناً فقد أضمروا لهم خيراً وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق قال النبيء صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ‏"‏ وقد علمنا الله تعالى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏ على أنه إذا عرض ما يوجب تكدر الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر ويرى للمقول له الصفاء فلا يعامله إلا بالصفاء قال المعري‏:‏

والخل كالماء يبدي لي ضمائره *** مع الصفاء ويُخيفها مع الكدر

على أن الله أمر بالإحسان الفعلي حيث يتعين ويدخل تحت قدرة المأمور وذلك الإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإيتاء الزكاة، وأمر بالإحسان القولي إذا تعذر الفعلي على حد قول أبي الطيب‏:‏

فليسعد النطق إن لم تسعدالحال *** وقوله‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ أطلقت الزكاة فيه على الصدقة مطلقاً أو على الصدقة الواجبة على الأموال‏:‏ وليس المراد الكناية عن شريعة الإسلام لما علمت من أن هاته المعاطيق تابعة لبيان الميثاق وهو عهد موسى عليه السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثم توليتم إلا قليلاً منكم‏}‏ خطاب للحاضرين وليس بالتفات كما علمت آنفاً‏.‏ والمعنى أخذنا ميثاق الأمة الإسرائيلية على التوحيد وأصول الإحسان فكنتم ممن تولى عن ذلك وعصيتم شرعاً اتبعتموه‏.‏ والتولي الإعراض وإبطال ما التزموه، وحذف متعلقه لدلالة ما تقدم عليه، أي توليتم عن جميع ما أخذ علكيم الميثاق به أي أشركتم بالله وعبدتم الأصنام وعققتم الوالدين وأسأتم لذوي القربى واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش القول وتركتم الصلاة ومنعتم الزكاة‏.‏

ويجوز أن يكون المراد بالخطاب في ‏{‏توليتم‏}‏ المخاطبين زمن نزول الآية، وبعض من تقدمهم من متوسط عصور الإسرائيليين فيكون ضمير الخطاب تغليباً، نكتته إظهار براءة الذين أخذ عليهم العهد أولاً من نكثه وهو من الإخبار بالجمع والمراد التوزيع أي توليتم فمنكم من لم يحسن للوالدين وذي القربى إلخ وهذا من صفات اليهود في عصر نزول الآية كما سيأتي في تفسير الآية التي بعدها، ومنكم من أشرك بالله وهذا لم ينقل عن يهود زمن النزول وإنما هومن صفات من تقدمهم من بعد سليمان فقد كانت من ملوك إسرائيل عبدة أصنام وتكرر ذلك فيهم مراراً كما هو مسطور في سفري الملوك الأول والثاني من التوراة‏.‏

و ‏(‏ثم‏)‏ للترتيبين الترتبي والخارجي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا قليلاً منكم‏}‏ إنصاف لهم في توبيخهم ومذمتهم وإعلان بفضل من حافظ على العهد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم معرضون‏}‏ جملة حالية ولكونها اسمية أفادت أن الإعراض وصف ثابت لهم وعادة معروفة منهم كما أشار إليه في «الكشاف» وهو مبني على اعتبار اسم الفاعل مشتقاً من فعل منزل منزلة اللازم ولا يقدر له متعلق ويجوز أن يقدر مشتقاً من فعل حذف متعلقه تعويلاً على القرينة أي وأنتم معرضون عن الوصايا التي تضمنت ذلك الميثاق أي توليتم عن تعمد وجرأة وقلة اكتراث بالوصايا وتركاً للتدبر فيها والعمل بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دياركم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ‏}‏‏.‏

تفنن الخطاب هنا فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة، إذ عبر هنا عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف منزلة السلف كما تقدم، لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه‏.‏

والقول في ‏{‏لا تسفكون‏}‏ كالقول في ‏{‏لا تعبدون إلا الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏ والسفك الصب‏.‏ وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل ‏{‏تسفكون‏}‏ اقتضت أن مفعول ‏{‏تسفكون‏}‏ هو دماء السافكين وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه، وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ أي فليسلم بعضكم على بعض‏.‏

فوجه إضافة الدماء إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر فيها مجموع الناس، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أومفعولية أو إضافة أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع وهذا كثير في استعمال القرآن ونكتته الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية وأنها راجعة إلى شيء واحد وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏ ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي‏:‏

قومي هم قتلوا أُميم أخي *** فإذا رميت يصيبني سهمي

فلئن عفوت لأعفون جللا *** ولئن سطوت لأوهنن عظمي

يريد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضرَّ بنفسه وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية وسماه اللف في القول، أي الإجمال المراد به التوزيع، وذهب صاحب «الكشاف» إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في قوله‏:‏ ‏{‏دماءكم‏}‏ و‏{‏أنفسكم‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ إن المعنى لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم، وهذا مبني على المجاز التبعي في ‏{‏تفسكون‏}‏ و‏{‏تخرجون‏}‏ بعلاقة التسبب‏.‏

وأشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليه السلام من قوله‏:‏ «لا تقتل، لا تشته بيت قريبك» فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب‏.‏

وعليه فإضافة ‏(‏ميثاق‏)‏ إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا بجميع ما تحتوي عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثم أقررتم وأنتم تشهدون‏}‏ مرتب ترتيباً رتبياً أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم به وشهدتم عليه فالضميران في ‏{‏أقررتم وأنتم تشهدون‏}‏ راجعان لما رجع له ضمير ‏{‏ميثاقكم‏}‏ وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم‏.‏ وجملة ‏{‏وأنتم تشهدون‏}‏ حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم التديُّن به‏.‏

والعطف بثم في قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏ لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم‏:‏ ها أنا ذا وها أنتم أولاء، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالباً بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهوالمعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق، ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالباً أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل‏.‏

ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيءَ عينَ شيء يبحث عنه في نفسه نحو «أنت أبا جهل» قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخناً بالجراح صريعاً ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو «قال أنا يوسف وهذا أخي» فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال‏:‏ «أنا ذلك» إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن نَدبة‏:‏

تَأَمَّلْ خُفَافاً إنني أنا ذلكا *** وقول طريف العنبري‏:‏

فتوسموني إنني أنا ذالكم *** وأوسع منه عندهم نحوُ قول أبي النجم‏:‏

أنا أبو النجم وشعري شعري *** ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا «بها التنبيهِ» فقالوا‏:‏ هَا أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر‏:‏

إن الفتى مَن يقول ها أنا ذا *** فإذا كان السبب الذي صحح الإخبار معلوماً اقتصَر المتكلم على ذلك وإلا أَتْبَع مثلَ ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب‏:‏ الأولى ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون‏}‏، الثانية‏:‏ ‏{‏ها أنتم أولاء تحبونهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏‏.‏ ومنه «ها أنا ذا لديكما» قاله أمية بن أبي الصلت‏.‏ الثالثة ‏{‏ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 109‏]‏ ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضراً وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيباً كما رأيت في الأمثلة‏.‏

والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبراً والجملة بعدهما حالاً، وقيل‏:‏ هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب، وقيل‏:‏ الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه، وقيل‏:‏ اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف‏.‏

وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذَا ونحوِه بمفرد فقيل يكون منصوباً على الحال وقيل‏:‏ مرفوعاً على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله‏:‏

أبا حَكَم ها أنتَ نَجْمٌ مُجَالد *** ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة «التسهيل» بقوله‏:‏ وها أنا ساع فيما انتدبت إليه، وجاء ابن هشام في خطبة «المغني» بقوله‏:‏ وها أنا مبيح بما أسررته‏.‏

واختلف النحاة أيضاً في أن وقوع الضمير بعد ‏(‏ها‏)‏ التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في «التسهيل» هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هولازم صرح به في «حواشي التسهيل» بنقل الدماميني في «الحواشي المصرية» في الخطبة وفي الهاء المفردة‏.‏ وقال الرضى إن دخول ‏(‏ها‏)‏ التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من «شواهد الرضي»‏:‏

تَعَلَّمَنْ هَا لعمرُ الله ذا قسما *** فاقدر بذرعك فانظر أين تنسلك

وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة‏:‏

ها إنّ تَاعذرة إن لا تكن نفعت *** فإن صاحبها قد تاه في البلد

وقوله‏:‏ ‏{‏تقتلون‏}‏ حال أو خبر‏.‏ وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وتخرجون فريقاً منكم‏}‏‏.‏

وجعل في «الكشاف» المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مراداً به أسلاف الحاضرين وجعل قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون‏}‏ مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مراداً منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها، وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف‏.‏

وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ماأمرتهم به شريعتهم والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقَيْنُقَاعَ‏.‏ وأراد من ذلك بخاصة ما حدث بينهم في حروب بُعَاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تَقَاتَل الأوسُ والخزرجُ اعتزل اليهودُ الفريقين زمناً طويلاً والأوسُ مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قُريظة والنَّضِير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم‏:‏ إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرجُ على اليهود رهائنَ أربعين غلاماً من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم‏.‏ ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم‏:‏ إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشي القوم على رهائنهم واستشاروا كعب بن أسيد القُرظي فقال لهم‏:‏ «يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأتَه حتى يولد له مثلُ أحدهم» فلما أجابت قريظة والنضير عمراً بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمروٌ على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فِرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلي المغلوبين من ديارهم وتأسرهم، ثم لمَّا ارتفعت الحرب جمعوا مالاً وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العربُ اليهودُ بذلك وقالت‏:‏ كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا‏:‏ قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أُمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يأتوكم أُسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 86‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏85‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وإن يأتوكم أُسارى‏}‏ يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله‏:‏ ‏{‏تقتلون أنفسكم وتخرجون‏}‏ فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذِكر ما أُخذ عليهم العهدُ مَا يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس من ديارهم كان في جملة المنهيات‏.‏ ولك أن تجعل الواو للحال من قوله‏:‏ ‏{‏وتخرجون فريقاً‏}‏ أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم‏.‏ وكيفما قدرت فقوله‏:‏ ‏{‏وهو محرم عليكم إخراجهم‏}‏ جملة حالية من قوله‏:‏ ‏{‏يأتوكم‏}‏ إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فحمل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرماً وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم، فجملة ‏{‏وهو محرم عليكم إخراجهم‏}‏ حالية من ضمير ‏{‏تفادوهم‏}‏‏.‏ وصُدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله‏:‏ ‏{‏وتخرجون فريقاً منكم‏}‏ وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تخرجون أنفسكم‏}‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وهو محرم عليكم إخراجهم‏}‏ تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القُربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء‏؟‏‏.‏

وعندي أن في الآية دلالةً على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتياً بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القُربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية‏.‏

والأُسارى بضم الهمزة جمع أسير حَمْلاً له على كَسْلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا‏:‏ كَسْلَى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أَسرى كقتلى‏.‏ وقيل‏:‏ هو جمع نادر وليس مبنياً على حمل، كما قالوا قدَامى جمع قديم‏.‏ وقيل‏:‏ هو جمعُ جمععٍ فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أُسارى وهو أظهر‏.‏ والأسير فَعِيل بمعنى مفعول من أَسَرَه إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسَار هو السَّيْر من الجِلد الذي يوثق به المَسجون والمَوثوق وكانوا يُوثِقون المغولبين في الحرب بسيور من الجِلد، قال النابغة‏:‏

لم يبقَ غيرُ طريدٍ غيرِ مُنْفَلِت *** أو موثَققٍ في حِباله القدِّ مسلوبِ

وقرأ الجمهور ‏(‏أُسارى‏)‏، وقرأه حمزة ‏(‏أَسْرَى‏)‏‏.‏

وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب ‏{‏تفادوهم‏}‏ بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصاً، فاستعمال فادى هنا مسلوب المفاضلة مثل عافاه الله وقول امرئ القيس‏:‏

فعادَى عداء بين ثور ونعجة *** دراكاً فلم ينضح بماء فيغسل

وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف ‏{‏تفدوهم‏}‏ بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء‏.‏

والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع، والحرام الممنوع منعاً شديداً أو الممنوع منعاً من قبل الدين، ولذلك قالوا‏:‏ الأشهر الحرم وشهر المحرم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض‏}‏ استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم، وسمي الاتباع والإعراض إيماناً وكفراً على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به، وإنما وقع ‏{‏تؤمنون‏}‏ في حيز الإنكار تنبيهاً على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين‏.‏

والفاء عاطفة على ‏{‏تقتلون أنفسكم‏}‏، وما عطف عليه، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدراً دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريباً عند قوله ‏{‏أفكلما جاءكم رسول‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فما جزاء من يفعل ذلك منكم‏}‏ فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ‏.‏ وقال عبد الحكيم‏:‏ إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظاً، وأما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيداً لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكماً جديداً وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم‏.‏

والخزي بالكسر ذل في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهواسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء، والمراد بالخزي ما لحق باليهود بعدتلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏(‏يُردون‏)‏ و‏(‏يعملون‏)‏ بياء الغيبة، وقرأ عاصم في رواية عنه ‏(‏تردون‏)‏ بتاء الخطاب نظراً إلى معنى ‏(‏من‏)‏ وإلى قوله ‏(‏منكم‏)‏، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب‏:‏ ‏(‏يعملون‏)‏ بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب‏.‏

وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة‏.‏

وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا‏}‏ موقع نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والقول في ‏{‏اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة‏}‏ كالقول في‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏‏.‏ والقول في ‏{‏فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون‏}‏ قريب من القول في ‏{‏ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون‏}‏‏.‏

وموقع الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فلا يخفف عنهم العذاب‏}‏ هو الترتب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب العظيم ولا يجد نصيراً يدفع عنه أو يخفف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

انتقال من الإنحاء على بني إسرائيل في فعالهم مع الرسول موسى عليه السلام بما قابلوه به من العصيان والتبرم والتعلل في قبول الشريعة وبما خالفوا من أحكام التوراة بعد موته إلى قرب مجيء الإسلام إلى الإنحاء عليهم بسوء مقابلتهم للرسل الذين أتوا بعد موسى مثل يوشع وإلياس وأرمياء وداوود مؤيدين لشريعته ومفسرين وباعثين للأمة على تجديد العمل بالشريعة مع تعدد هؤلاء الرسل واختلاف مشاربهم في الدعوة لذلك المقصد من لين وشدة، ومن رغبة ورهبة، ثم جاء عيسى مؤيداً وناسخاً ومبشراً فكانت مقابلتهم لأولئك كلهم بالإعراض والاستكبار وسوء الصنيع وتلك أمارة على أنهم إنما يعرضون عن الحق لأجل مخالفة الحق أهواءَهم وإلا فكيف لم يجدوا في خلال هاته العصور ومن بين تلك المشارب ما يوافق الحق ويتمحض للنصح‏.‏ وإن قوماً هذا دأبهم يرثه الخلف عن السلف لجديرون بزيادة التوبيخ ليكون هذا حجة عليهم في أن تكذيبهم للدعوة المحمدية مكابرة وحسد حتى تنقطع حجتهم إذ لو كانت معاندتهم للإسلام هي أُولى فعلاتهم لأوهموا الناس أنهم ما أعرضوا إلا لِمَا تبين لهم من بطلان فكان هذا مرتبطاً بقوله‏:‏ ‏{‏وآمنوا بما أنزلت مصدقاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏ ومقدمة للإنحاء عليهم في مقابلتهم للدعوة المحمدية الآتي ذكرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا غُلف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ تمهيد للمعطوف وهو قوله‏:‏ ‏{‏وقفَّينا من بعده بالرسل‏}‏ الذي هو المبني عليه التعجب في قوله‏:‏ ‏{‏أفكلما جاءكم رسول‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ تمهيد التمهيد وإلا فهو قدعُلم من الآيات السابقة فلا مقتضى للإعلام به استقلالاً هنا ولكنه ذكر ليبنى عليه ما بعده فكأنه تحصيل لما تقدم أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء موسى الكتاب وقفينا أيضاً بعده بالرسل فهو كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا‏.‏

و ‏(‏قفى‏)‏ مضاعف قفا تقول قفوت فلاناً إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه فهومن الأفعال المشتقة من الجوامد مثل جبهه، فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية وذلك أنك جعلته مأموراً بأن يقفو بجعل منك لا من تلقاء نفسه أي جعلته يقفوه غيره ولكون المفعول واحداً جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقاً بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس التابع بالمتبوع فقالوا‏:‏ قفَّى زيداً بعمرو عوض أن يقولوا‏:‏ قفى زيداً عمراً‏.‏

فمعنى ‏{‏قفينا من بعه بالرسل‏}‏ أرسلنا رسلاً وقد حذف مفعول ‏{‏قفينا‏}‏ للعلم به وهو ضمير موسى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏ أي من بعد ذهابه أي موته، وفيه إيماء إلى التسجيل على اليهود بأن مجيء الرسل بعد موسى ليس ببدع‏.‏

والجمع في الرسل للعدد والتعريف للجنس وهو مراد به التكثير قاله صاحب «الكشاف» أي لأن شأن لفظ الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق فلما كان الاستغراق هنا متعذراً دل على التكثير مجازاً لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس كقولك لم يبق أحد في البلد لم يشهد الهلال إذا شهده جماعات كثيرة وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي‏.‏

وسمي أنبياء بني إسرائيل الذين من بعد موسى رسلاً مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتباراً بأن الله لما أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفاً شرعياً وبذلك كانوا زائدين على مطلق النبوة التي لا تعلق لها بالتشريع لا تأصيلاً ولا تفريعاً‏.‏ وقال الباقلاني فيما نقله عنه الفخر‏:‏ لا بد أن يكون هؤلاء الرسل جاءوا بشرع جديد ولو مع المحافظة على الشرع الأول أو تجديد ما اندرس منه وهو قريب مما قلناه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن إلياس لمن المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 123‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإن يونس لمن المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 139‏]‏ وما كان عيسى عليه السلام إلا مثلهم في أنه ما أتى بأحكام جديدة إلا شيئاً قليلاً وخص عيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى زيادة في التنكيل على اليهود لأنهم يكفرون به ويكذبونه ولذلك أيضاً خصه بقوله‏:‏ ‏{‏وأيدناه بروح القدس‏}‏ ولأن من جاء بعد موسى من الرسل لم يخبروا أن جبريل جاءهم بوحي وعيسى كان أوسع منهم في الرسالة‏.‏

وعيسى اسم معرب من يشوع أو يسوع وهو اسم عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلباً مكانياً ليجري على وزن خفيف كراهية اجتماع ثقل العجمة وثقل ترتيب حروف الكلمة فإن حرفي علة في الكلمة وشيناً والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند النطق بها فقدموا العين لأنها حلقية فهي مبدأ النطق ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سيناً مهملة فلله فصاحة العربية‏.‏ ومعنى يشوع بالعبرانية السيد أو المبارك‏.‏

ومريم هي أم عيسى وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله لخفته ولا معنى لمريم في العربية غير العلمية إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصفة في معنى المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء لأن هاته الصفة اشتهرت بها مريم إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت بيت المقدس فلذلك يقولون امرأةٌ مريمٌ أي معرضة عن صفات النساء كما يقولون رجل حاتم بمعنى جواد وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف ولذلك قال رؤبة‏:‏

قلت لزيرٍ لم تزره مريمه *** فليس هو مشتقاً من رام يريم كما قد يتوهم‏.‏ وينبغي أن يكون وزنها فعيل بفتح الفاء وإن كان نادراً‏.‏

وعيسى عليه السلام هوابن مريم كونه الله في بطنها بدون مس رجل، وأمه مريم ابنة عمران من سبط يهوذا‏.‏

ولد عيسى في مدة سلطنة أغسطس ملك رومية وفي مدة حكم هيرودس على القدس من جهة سلطان الرومان وذلك في سنة 430 عشرين وستمائة قبل الهجرية المحمدية، وكانت ولادته بقرية تعرف ببيت لحم اليهودية، ولما بلغ ثلاثين سنة بعث رسولاً إلى بني إسرائيل وبقي في الدنيا إلى أن بلغ سنه ثلاثاً وثلاثين سنة‏.‏

وأما مريم أمه فهي مريم ابنة عمران بن ماثان من سبط يهوذا ولدت عيسى وهي ابنة ثلاث عشرة سنة فتكون ولادتها في سنة ثلاث عشرة قبل ميلاد عيسى وتوفيت بعد أن شاخت ولا تعرف سنة وفاتها، وكان أبوها مات قبل ولادتها فكفلها زكرياء من بني أبيا وهو زوج اليصابات خالة مريم وكان كاهناً من أحبار اليهود كما سيأتي في سورة آل عمران‏.‏

والبينات صفة لمحذوف أي الآيات والمعجزات الواضحات، ‏{‏وأيدناه‏}‏ قويناه وشددنا عضده ونصرناه وهو مشتق من اسم جامد وهو اليد فأيد بمعنى جعله ذا يد واليد مجاز في القوة والقدرة فوزن أيد أفعل، ولك أن تجعله مشتقاً من الأيد وهو القوة فوزنه فعل‏.‏

والتأييد التقوية والإقدار على العمل النفسي وهو مشتق من الأيد وهو القوة قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر عبدنا داود ذا الأيد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏ والأيد مشتق من اليد لأنها آلة القدرة والأحسن أن يكون مشتقاً من اليد أي جعله ذا يد أي قوة، والمراد هنا قوة معنوية وهي قوة الرسالة وقوة الصبر على أذى قومه وسيأتي في الأنفال ‏(‏62‏)‏ قوله؛ ‏{‏وهو الذي أيدك بنصره‏}‏

والروح جوهر نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس فيطلق على النفس الإنساني الذي به حياة الإنس، ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ ويطلق على قوة من لدن الله تعالى يكون بها عمل عجيب ومنه قوله‏:‏ ‏{‏فنفخنا فيها من روحنا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏، ويطلق على جبريل كما في قوله‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193، 194‏]‏ وهو المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تنزل الملائكة والروح فيها‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يوم يقوم الروح والملائكة‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏‏.‏

والقدس بضمتين وبضم فسكون مصدر أو اسم مصدر بمعنى النزاهة والطهارة‏.‏ والمقدس المطهر وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وروح القدس روح مضاف إلى النزاهة فيجوز أن يكون المراد به الروح الذي نفخ الله في بطن مريم فتكوّن منه عيسى وإنما كان ذلك تأييداً له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني المطهر هو الذي هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة، ويجوز أن يكون المراد به جبريل والتأييد به ظاهر لأنه الذي يأتيه بالوحي وينطق على لسانه في المهد وحين الدعوة إلى الدين وهذا الإطلاق أظهر هنا، وفي الحديث الصحيح ‏"‏ إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي أجلها ‏"‏ وعلى كلا الوجهين فإضافة ‏(‏روح‏)‏ إلى ‏(‏القدس‏)‏ إما من إضافة ما حقه أن يكون موصوفاً إلى ما حقه أن تشتق منه الصفة ولكن اعتبر طريق الإضافة إلى ما منه اشتقاق الصفة لأن الإضافة أدل على الاختصاص بالجنس المضاف إليه لاقتضاء الإضافة ملابسة المضاف بالمضاف إليه وتلك الملابسة هنا تؤول إلى التوصيف وإلى هذا قال التفتزاني في «شرح الكشاف» وأنكر أن يكون المضاف إليه في مثله صفة حقيقة حتى يكون في الوصف بالمصدر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفكلما جاءكم رسول‏}‏ هو المقصود من الكلام السابق، وما قبله من قوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا‏}‏ تمهيد له كما تقدم، فالفاء للسببية والاستفهام للتعجيب من طغيانهم ومقابلتهم جميع الرسل في جميع الأزمان بمقابلة واحدة ساوى فيها الخلف السلف مما دل على أن ذلك سجية في الجميع‏.‏

وتقديم همزة الاستفهام على حرف العطف المفيد للتشريك في الحكم استعمال متبع في كلام العرب وظاهره غريب لأنه يقتضي أن يكون الاستفهام متسلطاً على العاطف والمعطوف وتسلط الاستفهام على حرف العطف غريب فلذلك صرفه علماء النحو عن ظاهره ولهم في ذلك طريقتان‏:‏ إحداهما طريقة الجمهور قالوا‏:‏ همزة الاستفهام مقدمة من تأخير وقد كان موقعها بعد حرف العطف فقدمت عليه لاستحقاق الاستفهام التصدير في جملته، وإنما خصوا التقديم بالهمزة دون غيرها من كلمات الاستفهام لأن الهمزة متأصلة في الاستفهام إذ هي الحرف الموضوع للاستفهام الأكثر استعمالاً فيه، وأما غيرها فكلمات أشربت معنى الاستفهام منها ما هو اسم مثل ‏(‏أين‏)‏، ومنها حرف تحقيق وهو ‏(‏هل‏)‏ فإنه بمعنى قد فلما كثر دخول همزة الاستفهام عليه حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال فأصل هل فعلت أهل فعلت فالتقدير فأكلما جاءكم رسول فقلب، وقيل‏:‏ أفكلما جاءكم رسول فعلى هذه الطريقة يكون الاستفهام معطوفاً وتكون الجملة معطوفة على التي قبلها أو معطوفة على محذوف بحسب ما يسمح به المقام‏.‏

الطريقة الثانية طريقة صاحب «الكشاف» وفي «مغني اللبيب» أن الزمخشري أول القائلين بها وادعى الدماميني أن الزمخشري مسبوق في هذا ولم يعين من سبقه فإنه قد جوز طريقة الجمهور وجوز أن تكون همزة الاستفهام هي مبدأ الجملة وأن المستفهم عنه محذوف دل عليه ما عطف عليه بحرف العطف والتقدير في مثله أتكذبونهم فكلما جاءكم رسول إلخ‏.‏ وعلى هذه الطريقة تكون الجملة استفهامية مستأنفة محذوفاً بقيتها ثم عطف عليها ما عطف، ولا أثر لهذا إلا في اختلاف الاعتبار والتقدير فأما معنى الكلام فلا يتغير على كلا الاعتبارين لأن العطف والاستفهام كليهما متوجهان إلى الجملة الواقعة بعدهما‏.‏

والظاهر من كلام صاحب «الكشاف» في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة آل عمران ‏(‏165‏)‏‏:‏ ‏{‏أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها‏}‏ أن الطريقتين جائزتان في جميع مواقع الاستفهام مع حرف العطف وهو الحق وأما عدم تعرضه لذلك عند آيات ‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ‏{‏أفتؤمنون ببعض الكتاب‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏ فيما مضى من هذه السورة فذلك ذهول منه وقد تداركه هنا‏.‏

وعندي جواز طريقة ثالثة وهي أن يكون الاستفهام عن العطف والمعنى أتزيدون على مخالفاتكم استكباركم كلما جاءكم رسول إلخ وهذا متأت في حروف التشريك الثلاثة كما تقدم من أمثلة الواو والفاء وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أثم إذا ما وقع آمنتم به‏}‏ في سورة يونس ‏(‏51‏)‏ وقوله النابغة‏:‏

أثم تَعذَّران إلى منها *** فإني قد سمعتُ وقد رأيتُ

وقد استقريت هذا الاستعمال فوجدت مواقعه خاصة بالاستفهام غير الحقيقي كما رأيت من الأمثلة‏.‏

ومعنى الفاء هنا تسبب الاستفهام التعجيبي الإنكاري على ما تقرر عندهم من تقفية موسى بالرسل أي قفينا موسى بالرسل فمن عجيب أمركم أن كل رسول جاءكم استكبرتم وجوز صاحب الكشاف‏}‏ كون العطف على مقدر أي آتينا موسى الكتاب إلخ ففعلتم ثم وبخهم بقوله‏:‏ ‏{‏أفكلما‏}‏، فالهمزة للتوبيخ والفاء حينئذ عاطفة مقدراً معطوفاً على المقدر المؤهل للتوبيخ، وهو وجه بعيد، ومرمى الوجهين إلى أن جملة ‏{‏آتينا موسى الكتاب‏}‏ إلخ غير مراد منها الإخبار بمدلولها‏.‏

وانتصب ‏(‏كلما‏)‏ بالنيابة عن الظرف لأنه أضيف إلى ما الظرفية المصدرية والعامل فيه قوله‏:‏ ‏{‏استكبرتم‏}‏، وقدم الظرف ليكون موالياً للاستفهام المراد منه التعجيب ليظهر أن محل العجب هو استمرار ذلك منهم الدال على أنه سجية لهم وليس ذلك لعارض عرض في بعض الرسل وفي بعض الأزمنة، والتقدير أفاستكبرتم كلما جاءكم رسول فقدم الظرف للاهتمام لأنه محل العجب، وقد دل العموم الذي في ‏(‏كلما‏)‏ على شمول التكذيب أو القتل لجميع الرسل المرسلين إليهم لأن عموم الأزمان يستلزم عموم الأفراد المظروفة فيها‏.‏

و ‏{‏تهوى‏}‏ مضارع هوي بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على العقائد الضالة‏.‏

والاستكبار الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعاً لهم، فالسين والتاء في ‏{‏استكبرتكم‏}‏ للمبالغة كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا إبليس أبى واستكبر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون‏}‏ مسبب عن الاستكبار فالفاء للسببية فإنهم لما استكبروا بلغ بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقاً أي صرحوا بتكذيبهم أو عاملوهم معاملة الكاذب وقتلوا فريقاً وهذا كقوله تعالى عن أهل مدين‏:‏ ‏{‏قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وتقديم المفعول هنا لما فيه من الدلالة على التفصيل فناسب أن يقدم ليدل على ذلك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وهذا استعمال عربي كثير في لفظ فريق وما في معناه نحو طائفة إذا وقع معمولاً لفعل في مقام التقسيم نحو ‏{‏يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏

والتفصيل راجع إلى ما في قوله‏:‏ ‏{‏رسول‏}‏ من الإجمال لأن ‏(‏كلما جاءكم رسول‏)‏ أفاد عموم الرسول وشمل هذا موسى عليه السلام فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساءوا الظن به مراراً في أوامره الاجتهادية وحملوه على قصد التغرير بهم والسعي لإهلاكهم كما قالوا حين بلغوا البحر الأحمر وحين أَمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعالى، وحين أمرهم بدخول أريحا، وغير ذلك، وأما بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل عيسى وقتلوا بعض الرسل مثل أشعياء وزَكرياء ويحيى ابنه وأرمياء‏.‏

وجاء في ‏{‏تقتلون‏}‏ بالمضارع عوضاً عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم كقوله‏:‏ ‏{‏الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ مع ما في صيغة ‏{‏تقتلون‏}‏ من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

إما عطف على قوله‏:‏ ‏{‏استكبرتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏ أو على ‏{‏كذبتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏ فيكون على الوجه الثاني تفسيراً للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على ‏{‏كذبتم‏}‏ من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع‏:‏ تكذيبٌ وتقتيل وإعراض‏.‏ وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور فهومن الالتفات الذي نكتته أن ما أجري على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراضَ البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية‏.‏

وقد حسَّن الالتفاتَ أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شؤونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم، ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبيء صلى الله عليه وسلم صار الخطاب جارياً مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير الغيبة‏.‏ على أنه يحتمل أن قولهم ‏{‏قلوبنا غلف‏}‏ لم يصرحوا به علَنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 92‏]‏‏.‏ والقلوبُ مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل‏.‏

والغُلْف بضم فسكون جمع أغلف وهو الشديد الغلاف مشتق من غَلَّفه إذا جعل له غِلافاً وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يُكره له‏.‏

وهذا كلام كانوا يقولونه للنبيء صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين‏:‏ ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وفي الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوباً عما لا يلائمه فإن ذلك معنى الغِلاف فهم يُخيَلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات ولذلك قال المفسرون‏:‏ إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان حقاً لوعته، وهذان المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل لعنهم الله بكفرهم‏}‏ أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه‏.‏ وبهذا حصل المعنيان المرادان لهم من غير حاجة إلى فرض احتمال أن يكون ‏(‏غلف‏)‏ جمع غلاف لما فيه من التكلف في حذف المضاف إليه حتى يقدر أنها أوعية للعلم والحق فلا يتسرب إليها الباطل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بل لعنهم الله بكفرهم‏}‏ تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبيء صلى الله عليه وسلم فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول، فاللعنة حصلت لهم عقاباً على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك المكابرة وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا الجبرية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ تفريع على ‏{‏لَعَنهم‏}‏ و‏{‏قليلاً‏}‏ صفة لمحذوف دل عليه الفعل والتقدير فإيماناً قليلاً وما زائدة للمبالغة في التقليل والضمير لمجموع بني إسرائيل ويجوز أن يكون ‏(‏قليلاً‏)‏ صفة للزمان الذي يستلزمه الفعل أي فحيناً قليلاً يؤمنون‏.‏ وقيل يجوز أن يكون باقياً على حقيقته مشاراً به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبيء صلى الله عليه وسلم مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوءة موسى أو إلى إيمان أفراد منهم في بعض الأيام فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع بني إسرائيل في أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة‏.‏ ويجوز أن يكون ‏(‏قليلاً‏)‏ هنا مستعملاً في معنى العدم فإن القلة تستعمل في العَدَم في كلام العرب قال أبو كبير الهذلي‏:‏

قليلُ التشكي للمهم يصيبه *** كثيرُ الهوى شتى النوى والمسالك

أراد أنه لا يتشكى، وقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في أرض نصيبين «كثيرة العقارب قليلة الأقارب» أراد عديمة الأقارب ويقولون‏:‏ فلان قليل الحياء وذلك كله إما مجاز لأن القليل شبه بالعدم وإما كناية وهو أظهر لأن الشيء إذا قل آل إلى الاضمحلال فكان الانعدام لازماً عرفياً للقلة ادعائياً فتكون ‏(‏ما‏)‏ مصدرية والوجهان أشار إليهما في «الكشاف» باختصار واقتصر على الوجه الثاني منهما في تفسيره قولَه تعالى‏:‏ ‏{‏ءإله مع الله قليلاً ما تذكرون‏}‏ في سورة النمل ‏(‏62‏)‏ فقال‏:‏ والمعنى نفي التذكير والقلة تستعمل في معنى النفي وكأنَّ وجه ذلك أن التذكر من شأنه تحصيل العلم فلو تذكر المشركون المخاطبون بالآية لحصل لهم العلم بأن الله واحد لا شريك له، كيف وخطابهم بقوله‏:‏ ءإله مع الله‏}‏ المقصود منه الإنكار بناء على أنهم غير معتقدين ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا غلف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏ لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضاً مجرداً عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقاً لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏من عند الله‏}‏ متعلق بجاءهم وليس صفة لأنه ليس أمراً مشاهداً معلوماً حتى يوصف به‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مصدق لما معهم‏}‏ وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر والقول في تفسيره قد مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

والاستفتاح ظاهره طلب الفتح أي النصر قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 19‏]‏ وقد فسروه بأن اليهود كانوا إذا قاتلوا المشركين أي من أهل المدينة استنصروا عليهم بسؤال الله أن يبعث إليهم الرسول الموعود به في التوراة‏.‏ وجوز أن يكون ‏{‏يستفتحون‏}‏ بمعنى يفتحون أي يعلمون ويخبرون كما يقال فتح على القارئ أي علمه الآية التي ينساها فالسين والتاء لمجرد التأكيد مثل زيادتهما في استعصم واستصرخ واستعجب والمراد كانوا يخبرون المشركين بأن رسولاً سيبعث فيؤيد المؤمنين ويعاقب المشركين‏.‏ 5 وقوله‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا‏}‏ أي ما كانوا يستفتحون به أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه كفروا به وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل فيشمل الكتاب والرسول الذي جاء به فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول‏.‏ ووقع التعبير بما الموصولة دون مَن لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء لما هو أعم من العاقل‏.‏

والمراد بما عرفوا القرآن أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج وإن جهلوا انطباقها على القرآن لضلالهم لأن الظاهر أن بني إسرائيل لم يكن أكثرهم يعتقد صدق القرآن وصدق الرسول وبعضهم كان يعتقد ذلك ولكنه يتناسى ويتغافل حسداً قال تعالى‏:‏ ‏{‏حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏ ويصير معنى الآية‏:‏ «وما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم» وعرفوا أنه الذي كانوا يستفتحون به على المشركين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وكانوا من قبل يستفتحون‏}‏ في موضع الحال وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا‏}‏ بالفاء عطف على جملة ‏{‏كانوا يستفتحون‏}‏‏.‏ و‏(‏لما‏)‏ الثانية تتنازع مع ‏(‏لما‏)‏ الأولى الجواب وهو قوله‏:‏ ‏{‏كفروا به‏}‏ فكان موقع جملة ‏(‏وكانوا‏)‏ إلخ بالنسبة إلى كون الكتاب مصدقاً موقع الحال لأن الاستنصار به أو التبشير به يناسب اعتقاد كونه «مصدقاً لما معهم» وموقعها بالنسبة إلى كون الكتاب والرسول معروفين لهم بالأمارات والدلائل موقع المنشإ من المتفرع عنه مع أن مفاد جملة ‏{‏لما جاءهم كتاب من عند الله‏}‏ إلخ وجملة ‏{‏لما جاءهم ما عرفوا‏}‏ إلخ واحد وإعادة ‏(‏لما‏)‏ في الجملة الثانية دون أن يقول‏:‏ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فجاءهم ما عرفوا إلخ قصد إظهار اتحاد مفاد الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين حيث انفصل بالجملة الحالية فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع، وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحداً طريقة عربية فصحى، قال تعالى‏:‏

‏{‏لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 188‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 35‏]‏ فأعاد ‏(‏أنكم‏)‏ قبل خبر الأولى وقد عدلنا في هذا البيان عن طريقة الزجاج وطريقة المبرد وطريقة الفراء المذكورات في ‏{‏حاشية الخفاجي وعبد الحكيم‏}‏ وصغناه من محاسن تلك الطرائق كلها لما في كل طريقة منها من مخالفة للظاهر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلعنة الله على الكافرين‏}‏ جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم والدعاء من الله تعالى تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوباً بالأدعية وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود الله مغلولة غلت أيديهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قاتلهم الله أنى يؤفكون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ وسيأتي بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ في سورة براءة ‏(‏98‏)‏‏.‏

والفاء للسببية والمراد التسبب الذكري بمعنى أن ما قبلها وهو المعطوف عليه يسبب أن ينطق المتكلم بما بعدها كقول قيس بن الخطيم‏:‏

وكنت امرءاً لا أسمع الدهر سبة *** أسب بها إلا كشفت غطاءها

فإني في الحرب الضروس موكل *** بإقدام نفس ما أريد بقاءها

فعطف قوله‏:‏ ‏(‏فإني‏)‏ على قوله كشفت غطاءها لأن هذا الحكم يوجب بيان أنه في الحرب مقدام‏.‏

واللام في ‏(‏الكافرين‏)‏ للاستغراق بقرينة مقام الدعاء يشمل المتحدث عنهم لأنهم من جملة أفراد هذا العموم بل هم أول أفراده سبقاً للذهن لأن سبب ورود العام قطعي الدخول ابتداء في العموم‏.‏ وهذه طريقة عربية فصيحة في إسناد الحكم إلى العموم والمراد ابتداءً بعض أفراده لأن دخول المراد حينئذ يكون بطريقة برهانية كما تدخل النتيجة في القياس قال بَشَامَةُ بن حَزن النهشلي‏:‏

إنَّا محيوك يا سَلْمى فحيينا *** وإن سَقَيْتتِ كرام الناس فاسقِينا

أراد الكناية عن كرمهم بأنهم يُسقون حين يُسقى كرام الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

استئناف لذمهم وتسفيه رأيهم إذ رضوا لأنفسهم الكفر بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأعرضوا عن النظر فيما اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد موسى، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون أنهم مع ذلك قد استبقَوْا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن، فهذا إيقاظ لهم نحومعرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين‏.‏

و ‏{‏بئسما‏}‏ مركّب من ‏(‏بئسَ‏)‏ و‏(‏ما‏)‏ الزائدة‏.‏ وفي بئسَ وضِدّها نِعْمَ خلاف في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان‏.‏ وفي ‏(‏ما‏)‏ المتصلة بهما مذاهب أحدها أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازاً عن ‏(‏ما‏)‏ الموصولة فقوله‏:‏ ‏{‏بئسما‏}‏ يفسر ببئس الشيء قاله سيبويه والكسائي‏.‏ والآخر أنها موصولة قاله الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها ‏(‏ما‏)‏ وحدها كانت ‏(‏ما‏)‏ معرفة تامة نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبدوا الصدقات فنِعِمَّا هي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271‏]‏ أي نعم الشيء هي وإن وقعت بعد ما جملة تصلح لأن تكون صلة كانت ‏(‏ما‏)‏ معرفة ناقصة أي موصولة نحو قوله هنا‏:‏ ‏{‏بئسما اشتروا به أنفسهم‏}‏ و‏(‏ما‏)‏ فاعل ‏(‏بئس‏)‏‏.‏

وقد يذكر بعد بئس ونِعْم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المَدْح، ويسمى في علم العربية المخصوصَ وقد لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه فقوله‏:‏ ‏{‏أن يكفروا‏}‏ هو المخصوص بالذم والتقدير كفرهم بآيات الله، ولك أن تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبراً محذوف المبتدأ أو بدلاً أوبياناً من ‏(‏ما‏)‏ وعليه فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اشتروا‏}‏ إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و‏{‏أن يكفروا‏}‏ هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نِعْم الرجل فلان‏.‏

والاشتراء الابتياع وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏ فقوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏بئسما اشتروا به أنفسهم‏}‏ مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيهاً لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأَبْقَوْا عليها بأن كفروا بالقرآن حسداً، فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لتمسكهم بالتوراة وأَن قوله فيما تقدم ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏ بمعنى جاءهم ما عرفوا صفتَه وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله‏:‏ ‏{‏بئسما اشتروا به أنفسهم‏}‏ أي بئسما هو في الواقع وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم وقوله‏:‏ ‏{‏أن يكفروا بما أنزل الله‏}‏ هو أيضاً بحسب الواقع، وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت‏.‏ وإن كانوا معتقدين صدق الرسول وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا‏}‏ على أحد الاحتمالين المتقدمين، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي أي بئس العوض بَذلُهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق بالآية على نحو قوله تعالى‏:‏

‏{‏أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ إن ‏{‏اشتروا‏}‏ بمعنى باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏}‏ وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى، على أنك قد علمت إمكان الجمع بين مقتضى قوله‏:‏ ‏{‏ما عرفوا‏}‏ وقوله هنا‏:‏ ‏{‏اشتروا به أنفسهم‏}‏ فأنتَ في غنى عن التكلف‏.‏ وعلى كلا التفسيرين يكون ‏{‏اشتروا‏}‏ مع ما تفرع عنه من قوله‏:‏ ‏{‏فباءُوا بغضب على غضب‏}‏ تمثيلاً لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران، وهو تمثيل يقبَل بعضُ أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية‏.‏

وجيء بصيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏أن يَكفروا‏}‏ ولم يؤتَ به على ما يناسب المبيَّن وهو ‏{‏مَا اشتروا‏}‏ المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر بالقرآن من قبل نزول الآية فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى، ثم لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم كفروا فيما مضى أيضاً إذ كان المبيَّن بأن يَكْفروا معبَّراً عنه بالماضي بقوله‏:‏ ‏{‏ما اشتروا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بغياً‏}‏ مفعُول لأجله علة لقوله‏:‏ ‏{‏أن يكفروا‏}‏ لأنه الأقرب إليه، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذمُوم، والبغي هنا مصدر بَغى يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلماً خاصاً وهو الحسد وإنما جُعل الحسد ظلماً لأن الظلم هو المعاملة بغير حق والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع، ولا من بقائها ضر، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ المعنى في قوله‏:‏

وأَظْلَمُ خلقِ الله من بات حاسداً *** لِمنْ بَاتَ في نَعْمائِه يَتَقَلَّب

وقوله‏:‏ ‏{‏أن ينزل الله‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏بغياً‏}‏ بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل ‏{‏بغياً‏}‏ بمعنى حسداً‏.‏

فاليهود كفروا حسداً على خروج النبوءة منهم إلى العرب وهو المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على من يشاء من عباده‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فباءوا بغضب على غضب‏}‏ أي فرجعوا من تلك الصفقة وهي اشتراء أنفسهم بالخسران المبين وهو تمثيل لحالهم بحال الخارج بسلعته لتجارة فأصابته خسارة فرجع إلى منزله خاسراً‏.‏ شبه مصيرهم إلى الخسران برجوع التاجر الخاسر بعد ضميمة قوله‏:‏ ‏{‏بئس ما اشتروا به أنفسهم‏}‏‏.‏

والظاهر أن المراد بغضب على غضب الغضب الشديد على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نور على نور‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ أي نور عظيم وقوله‏:‏ ‏{‏ظلمات بعضها فوق بعض‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏ وقول أبي الطيب‏:‏

أَرَقٌ على أرَق ومثْلِىَ يَأْرَقُ *** وهذا من استعمال التكرير باختلاف صيغه في معنى القوة والشدة كقول الحطيئة‏:‏

أنت آل شماس بن لأي وإنما *** أتاهم بها الإحكم والحسب العد

أي الكثير العدد أي العظيم وقال المعري‏:‏

بني الحسب الوضاح والمفخر الجم *** أي العظيم قال القرطبي قال بعضهم‏:‏ المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم للكفر وللحسد أو للكفر بمحمد وعيسى عليهما السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وللكافرين عذاب مهين‏}‏ هو كقوله‏:‏ ‏{‏فلعنة الله على الكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏ أي ولهم عذاب مهين لأنهم من الكافرين، والمهين المذل أي فيه كيفية احتقارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏ولما جاءهم كتاب من عند الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏ المعطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا غلف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏ وبهذا الاعتبار يصح اعتباره معطوفاً على ‏{‏وقالوا قلوبنا غلف‏}‏ على المعروف في اعتبار العطف على ما هو معطوف وهذا كله من عطف حكايات أحوالهم في معاذيرهم عن الإعراض عن الدعوة الإسلامية فإذا دعوا قالوا‏:‏ قلوبنا غلف وإذا سمعوا الكتاب أعرضوا عنه بعد أن كانوا منتظريه حسداً أن نزل على رجل من غيرهم، وإذا وعظوا وأنذروا ودعوا إلى الإيمان بالقرآن وبأنه أنزله الله وأن ينظروا في دلائل كونه منزلاً من عند الله أعرضوا وقالوا‏:‏ نؤمن بما أنزل علينا أي بما أنزله الله على رسولنا موسى، وهذا هو مجمع ضلالاتهم ومنبع عنادهم فلذلك تصدى القرآن لتطويل المحاجة فيه بما هنا وما بعده تمهيداً لقوله الآتي‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ الآيات‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم ‏{‏آمنوا بما أنزل الله‏}‏ علموا أنهم إن امتنعوا امتناعاً مجرداً عدت عليهم شناعة الامتناع من الإيمان بما يدعى أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم ‏{‏نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه‏.‏ وهذا وجه التعبير في الحكاية عنهم بلفظ المضارع ‏{‏نؤمن‏}‏ أي ندوم على الإيمان بما أنزل علينا وقد عرضوا بأنهم لا يؤمنون بغيره لأن التعبير بنؤمن بما أنزل علينا في جواب من قال لهم ‏{‏آمنوا بما أنزل الله‏}‏ وقد علم أن مراد القائل الإيمان بالقرآن مشعر بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم فقط لأنهم يرون الإيمان بغيره مقتضياً الكفر به فههنا مستفاد من مجموع جملتي ‏{‏آمنوا بما أنزل الله‏}‏ وجوابها بقولهم ‏{‏نؤمن بما أنزل علينا‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكفرون بما وراءه‏}‏ جيء بالمضارع محاكاة لقولهم ‏{‏نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ وتصريح بما لوحوا إليه ورد عليهم أي يدومون على الإيمان بما أنزل عليهم ويكفرون كذلك بما وراءه فهم يرون أن الإيمان به مقتض للكفر بغيره على أن للمضارع تأثيراً في معنى التعجب والغرابة‏.‏ وفي قرنه بواو الحال إشعار بالرد عليهم وزاد ذلك بقوله ‏{‏وهو الحق مصدقاً لما معهم‏}‏‏.‏

والوراء في الأصل اسم مكان للجهة التي خلف الشيء وهو عريق في الظرفية وليس أصله مصدراً‏.‏ جعل الوراء مجازاً أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص واستعمل أيضاً مجازاً عن المجاوز لأن الشيء إذا كان أمام السائر فهو صائر إليه فإذا صاروا وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه قال النابغة‏:‏

وليس وراء الله للمرء مطلب *** واستعمل أيضاً بمعنى الطلب والتعقب تقول ورائي فلان بمعنى يتعقبني ويطلبني ومنه قول الله تعالى‏:‏

‏{‏وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ وقول لبيد‏:‏

أليس ورائي أن تراخت منيتي *** لزوم العصا تحني عليها الأصابع

فمن ثم زعم بعضهم أن الوراء يطلق على الخلف والأمام إطلاق اسم الضدين واحتج ببيت لبيد وبقرآن وكان أمامهم ملك وقد علمت أنه لا حجة فيه ولذلك أنكر الآمدي في «الموازنة» كونه ضداً‏.‏

فالمراد بما وراءه في الآية بما عداه وتجاوزه أي بغيره والمقصود بهذا الغير هنا خصوص القرآن بقرينة السياق لتقدم قوله‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله‏}‏ ولتعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏وهو الحق مصدقاً‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏وهو الحق‏}‏ حالية واللام في ‏(‏الحق‏)‏ للجنس والمقصود اشتهار المسند إليه بهذا الجنس أي وهو المشتهر بالحقية المسلم ذلك له على حد قول حسان‏:‏

وإن سنام المجد من آل هشام *** بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

لم يرد حسان انحصار العبودية في الوالد وإنما أراد أنه المعروف بذلك المشتهر به فليست اللام هنا مفيدة للحصر لأن تعريف المسند باللام لا تطرد إفادته الحصر على ما في «دلائل الإعجاز»‏.‏ وقيل يفيد الحصر باعتبار القيد أعني قوله ‏{‏مصدقاً‏}‏ أي هو المنحصر في كونه حقاً مع كونه مصدقاً فإن غيره من الكتب السماوية حق لكنه ليس مصدقاً لما معهم ولعل صاحب هذا التفسير يعتبر الإنجيل غير متعرض لتصديق التوراة بل مقتصراً على تحليل بعض المحرمات وذلك يشبه عدم التصديق‏.‏ ففي الآية صد لبني إسرائيل عن مقابلة القرآن بمثل ما قابلوا به الإنجيل وزيادة في توبيخهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مصدقاً‏}‏ حال مؤكدة لقوله‏:‏ ‏{‏وهو الحق‏}‏ وهذه الآية علم في التمثيل للحال المؤكدة وعندي أنها حال مؤسسة لأن قوله ‏{‏مصدقاً لما معهم‏}‏ مشعر بوصف زائد على مضمون ‏{‏وهو الحق‏}‏ إذ قد يكون الكتاب حقاً ولا يصدق كتاباً آخر ولا يكذبه وفي مجيء الحال من الحال زيادة في استحضار شؤونهم وهيئاتهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين‏}‏ فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبئاء دأب لهم وأن قولهم‏:‏ ‏{‏نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ كذب إذ لو كان حقاً لما قتل أسلافهم الأنبئاء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق أهواءهم‏.‏ وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل الأنبئاء‏.‏

والإتيان بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏تقتلون‏}‏ مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة ذلك قوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ فذلك كما جاء الحطيئة بالماضي مراداً به الاستقبال في قوله‏:‏

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** أن الوليد أحق بالعذر

بقرينة قوله يوم يلقى ربه‏.‏

والمراد بأنبئاء الله الذين ذكرناهم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقتلون النبيئين بغير الحق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏92‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فلم تقتلون أنبياء الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏ والقصد منه تعليم الانتقال في المجادلة معهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم خاصة، وذلك أنه بعد أن أكذبهم في ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فلم تقتلون أنبياء الله من قبل‏}‏ كما بينا، ترقى إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما جاءهم به فإنهم مع ذلك قد قابلوا دعوته بالعصيان قولاً وفعلاً فإذا كانوا أعرضوا عن الدعوة المحمدية بمعذرة أنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم فلماذا قابلوا دعوة أنبيائهم بعد موسى بالقتل‏؟‏ ولماذا قابلوا‏؟‏ دعوة موسى بما قابلوا‏.‏ فهذا وجه ذكر هذه الآيات هنا وإن كان قد تقدم نظائرها فيما مضى، فإن ذكرها هنا في محاجة أخرى وغرض جديد، وقد بينتُ أن القرآن ليس مثل تأليف في علم يُحال فيه على ما تقدم بل هو جامع مواعظ وتذكيرات وقوارع ومجادلات نزلت في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة فلذلك تتكرر فيه الأغراض لاقتضاء المقام ذكرها حينئذ عند سبب نزول تلك الآيات‏.‏

وفي «الكشاف» أن تكرير حديث رفع الطور هنا لما نيط به من الزيادة على ما في الآية السابقة معنى في قوله‏:‏ ‏{‏قالوا سمعنا وعصينا‏}‏ الآية وهي نكتة في الدرجة الثانية‏.‏

وقال البيضاوي إن تكرير القصة للتنبيه على أن طريقتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم طريقة أسلافهم مع موسى وهي نكتة في الدرجة الأولى وهذا إلزام لهم بعمل أسلافهم بناءً على أن الفرع يَتْبَع أصله والولد نسخة من أبيه، وهو احتجاج خطابي‏.‏

والقول في هاته الآيات كالقول في سابقتها ‏[‏البقرة‏:‏ 63‏]‏ وكذلك القول في ‏(‏البينات‏)‏‏.‏ إلا أن قوله‏:‏ ‏{‏واسمعوا‏}‏ مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ يتضمنه ابتداء لأن المراد من الأخذ بالقوة الاهتمام به وأول الاهتمام بالكلام هو سماعه والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ لا يشمل الامتثال فيكون قوله‏:‏ ‏{‏واسمعوا‏}‏ دالاً على معنى جديد وليس تأكيداً، ولك أن تجعله تأكيداً لمدلول ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ بأن يكون الأخذ بقوة شاملاً لنية الامتثال وتكون نكتة التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي ففي هذه الآية زيادة بيان لقوله في الآية الأولى‏:‏ ‏{‏واذكروا ما فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 63‏]‏‏.‏

واعلم أن من دلائل النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات الني نطق بها موسى في بني إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطباتتِ موسى لملإ بني إسرائيل بقوله‏:‏ اسمع يا إسرائيل، فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قالوا سمعنا وعصينا‏}‏ يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جواباً لقوله‏:‏ ‏{‏واسمعوا‏}‏ وإنما أجابوه بأمرين لأن قوله‏:‏ ‏{‏اسمعوا‏}‏ تضمن معنيين معنى صريحاً ومعنى كنائياً فأجابوا بامتثال الأمر الصريح وأما الأمر الكنائي فقد رفضوه وذلك يتضمن جواب قوله‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ أيضا لأنه يتضمن ما تضمنه ‏{‏واسمعوا‏}‏ وفي هذا الوجه بعد ظاهر إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم بالعزم على المعصية وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏سمعنا‏}‏ جواب لقوله‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم‏}‏ أي سمعنا هذا الكلام، وقوله‏:‏ ‏{‏وعصينا‏}‏ جواب لقوله‏:‏ ‏{‏واسمعوا‏}‏ لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه ويبعده أن الإتيان في جوابهم بكلمة ‏{‏سمعنا‏}‏ مشير إلى كونه جواباً لقوله‏:‏ ‏{‏اسمعوا‏}‏ لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به وقوله‏:‏ ليكون كل كلام قد أجيب عنه قد علمت أن جعل ‏{‏سمعنا وعصينا‏}‏ جواباً لقوله‏:‏ ‏{‏واسمعوا‏}‏ يغني عن تطلب جواب لقوله‏:‏ ‏{‏خذوا‏}‏ ففيه إيجاز، فالوجه في معنى هذه الآية هوما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم‏:‏ ‏{‏عصينا‏}‏ كان بلسان الحال يعني فيكون ‏{‏قالوا‏}‏ مستعملاً في حقيقته ومجازه أي قالوا‏:‏ سمعنا وعصوا فكأن لسانهم يقول عصينا‏.‏‏:‏ ويحتمل أن قولهم ‏{‏عصينا‏}‏ وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم‏:‏ ادخلوا القرية ‏{‏لن ندخلها أبداً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول‏.‏ وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى‏:‏ ‏{‏ثم توليتم من بعد ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 64‏]‏‏.‏

والإشراب هو جعل الشيء شارباً، واستعير لجعل الشيء متصلاً بشيء وداخلاً فيه ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره ولذا يقول الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية ومَركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن فلذلك استعاروا الإشراب لشدة التداخل استعارة تبعية قال بعض الشعراء‏:‏

تغلغل حب عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب *** ولا حزن ولم يبلغ سرور

ومنه قولهم أشرب الثوب الصبغ، قال الراغب‏:‏ من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب وبغض أن يستعيروا لذلك اسم الشراب اه‏.‏ وقد اشتهر المعنى المجازي فهجر استعمال الإشراب بمعنى السقي وذكر القلوب قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه العجل‏.‏ وإنما جعل حبهم العجل إشراباً لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أُولِع بكذا وشُغِف‏.‏

والعجلَ مفعول ‏{‏أشربوا‏}‏ على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها إلى الذوات مثل

‏{‏حُرِّمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ أي أكل لحمها‏.‏ وإنما شغفوا به استحساناً واعتقاداً أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب‏.‏ وقد قوي ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏بكفرهم‏}‏ فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلاً في حب معتقده‏.‏

وإسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله‏:‏ ‏{‏في قلوبهم‏}‏ مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة‏.‏ وقريب منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يأكلون في بطونهم ناراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصراً في البطن بخلاف الإشراب فلا اختصاص له بالقلوب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين‏}‏ تذييل واعتراض ناشئ عن قولهم ‏{‏سمعنا وعَصَيْنا‏}‏ هو خلاصة لإبطال قولهم‏:‏ ‏{‏نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏ بعد أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله‏:‏ ‏{‏قل فلم تقتلون أنبئاء الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءكم موسى بالبينات‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قالوا سمعنا وعصينا‏}‏ ولذلك فَصَله عن قوله‏:‏ ‏{‏قل فلم تقتلون أنبئاء الله‏}‏ لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله، والمعنى قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلاً، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فالجملة الشرطية كلها مقول ‏{‏قل‏}‏ والأمر هنا مستعمل مجازاً في التسبب‏.‏

وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلاً إلا وهو مأذون فيه من كتابهم، هذا وجه الملازمة وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمي بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرحمن من ولد فأنا أول العابدين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 81‏]‏ ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور فلا جرم أن يكون مرتكبو هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك كونهم ‏{‏مؤمنين‏}‏ وهو المقصود فقوله‏:‏ ‏{‏بئسما يأمركم‏}‏ جواب الشرط مقدم عليه أو ‏{‏قل‏}‏ دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضاً كما يفرض المحال وهو المراد هنا؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم ‏{‏مؤمنين‏}‏ إلا منفياً ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالاً لطائرهم‏.‏

وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو ‏{‏بئسما يأمركم‏}‏ وإلى هذا أشار صاحب «الكشاف» كما قاله التفتزاني وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت‏.‏

ولا معنى لجعل ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ ابتداء كلام وجوابه محذوفاً تقديره فإيمانكم لا يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل إلخ لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله‏:‏ ‏{‏قل بئسما يأمركم به إيمانكم‏}‏ إلخ يتطلبه مزيد تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة‏.‏ على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمَرهم بهذا المذام فكيف ينفي بَعْد ذلك أن يكون إميانهم يأمرهم‏؟‏

و ‏{‏بئسما‏}‏ هنا نظير بئسما المتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏بئسما اشتروا به أنفسهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 90‏]‏ سوى أن هذا لم يؤت له باسممٍ مخصوص بالذم لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم‏}‏ والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادةُ العجل‏.‏